ما يزال تطور وعي المغاربة بأهمية الكف عن تقديم المساعدة لمن هب ودب من المتسولين “غير كافٍ” لمحاصرة تمدد التسول بالفضاءات العمومية، وفق مواكبين للظاهرة؛ فمحترفو هذه الممارسة بدون سبب قاهر أو مجبر يأبون إلا أن يبتكروا طرقا جديدة لاستدرار عطف المواطنين وشفقتهم، فالتمكن من انتزاع حصة من أموالهم، ليست بالضرورة نقدا؛ إذ قد تكون تذكرة سفر أو رغيف خبز أو خضرا وفواكه…، يعاد بيعها في الحين، هو تسول واضح.
وباتت مجموعة من المحطات الطرقية، بل ومحطات السكك الحديدية أحيانا، تشكو توافد متسولين بشكل يومي إلى جنباتها من أجل تكرار قصص تكاد تكون موحدة على مسامع المرتفقين بهذه المحطات. لعل من أبرزها ما يدعيه المتسول من كونه عابر سبيل يحتاج ثمن تذكرة العودة، أو حتى اقتناءها له في حال لم يقتنع المواطن/المسافر، ليقوم هذا المتسول بالتربص بمواطن آخر لإقناعه بشراء التذكرة المتصدق عليه بها، بعد أن يتخمه بالمبررات التي جعلته غير محتاج لها.
ولا تكاد بعض المخابز ومحلات الجزارة والخضر والفواكه، وكذا محلات الوجبات الخفيفة، تخلو بدورها من ممارسة مماثلة للتسول عبر الاحتيال، تتمثل أساسا في استجداء المتسولين بعض المواطنين الذين يقصدون هذه المحلات ليمنحوهم بعضا مما تقدمه من منتجات غذائية أو استهلاكية، ثم إعادة بيعها أيضا، وأحيانا إلى صاحب المحل الذي بيعت منه لأول مرة.
ويرى باحثون في علم النفس الاجتماعي، أكدوا التقاطهم تطور اللجوء إلى هذه الأشكال بالمدن المغربية من قبل المتسولين، أن هذه الممارسات “تعكس رغبة هؤلاء في مجاراة أي زيادة تحصل في وعي المواطنين بشأن طريقة احتيالية ما مستخدمة في التسول”، مع لفتهم إلى أن “التطور لم يطل القصص المختلقة فقط، بل كذلك لباس المتسول الذي لم يعد رثا كما تواضعت عليه العادة، ما يجعل المواطن في نهاية المطاف يقتنع بكونه اضطر للتسول مؤقتا لظرفٍ ما، وأنه لا يتخذ التسول حرفته اليومية”.
“التسول يواكب الوعي”
معلقا على الموضوع، سجل محسن بنزاكور، أستاذ باحث في علم النفس الاجتماعي بجامعة شعيب الدكالي بالجديدة، أن “أخطر أنواع التسول هو ذلك المبني على النصب، وقد تكاثر وتطورت أشكاله بشكل كبير خلال السنوات الأخيرة”، مردفا بأن “استمرار هذه الظاهرة راجع إلى سببين، أولهما أن التعاطف مع المتسولين بين المغاربة والتصدق عليهم ما زال رائجا، إما نظرا للاحتكام لوازع الديني أو رغبة في دفع الإحساس بالذنب”.
ثاني الأسباب، يضيف بنزاكور لتشاش تفي، أن “المتسول المجرم-نظرا لأن الاحتيال والنصب أفعال مجرمة قانونا-لا يتوانى عن حبك القصص والسيناريوهات التي يمكن أن تستدر عاطفة الناس، وتثير إحساسهم بالذنب، لإسقاط جميع من يتسول لهم، بما في ذلك من يعتقد أنه فطن ويحكّم وعيه وعقله في التعامل مع المتسولين”.
وأكد الأستاذ الباحث في علم النفس الاجتماعي أن “جميع الحيل التي لا يمكن أن تخطر ببال المواطن المغربي بات ينتهجها المتسولون المحتالون، من الإدعاء بانقطاع السبيل أو عدم التوفر على ثمن تذكرة سفر ثم إعادة بيعها لمواطن آخر، أو تسول الخبز أو المأكولات أو غيرها وإعادة بيعها كذلك باختلاق قصص احتيالية أخرى”، مردفا أنه “كلما تطور وعي وذكاء المواطن المغربي تجاه طرق تحايل المتسولين، يبتكر هؤلاء أخرى. وهنا نصبح أمام تفنن في الجريمة”.
وتابع شارحا :”حينما يتبين لمتسول مردودية طريقة احتيالية في النصب، وفعاليتها ونجاعتها في سلب أموال المواطنين، يحرص على تقاسمها مع محترفي هذا الفعل إلى حين انكشافها للمواطنين، فيلجأ هؤلاء المتسولون آنذاك إلى إبداع أخرى”.
وقال إن المتسولين عبر الطرق الاحتيالية، “يقصدون ضحاياهم في الفضاءات التي من الممكن أن تكون فيها احتمالية إحساس هؤلاء بالذنب والحرج، وبالتالي التصدق، مرتفعة، مثل المخبزات أو محلات المأكولات أو المجازر”.
ولفت الأستاذ الباحث في علم النفس الاجتماعي إلى أن “طريقة التسول بالإعاقة عبر ادعاء بتر في الرجل أو اليد، قديمة، لكنها عادت بدورها بقوة إلى الساحات والفضاءات العمومية”.
وأبرز أن حل هذه الإشكالية يبدأ من “يقين المواطن المغربي بأن منح الخبز أو تذكرة سفر أو دراهم لمتسول، ليس هو الصدقة ولن يعيد إليه ثقته بالنفس وتدينه”، موضحا أن “هذه الظاهرة التي نحن بصددها تستدعي يقظة المواطنين على الجانب الديني كذلك؛ فللصدقة شروط، وعلى رأسها أن تمنح سرا أصلا، فتقديمها أمام الملأ لمتسول ليس مقبولا من طرف الله عز وجل”.
“تطور متعدد الجوانب”
خلود السباعي، أستاذة علم النفس الاجتماعي بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، عدت أنه “لا يمكن فصل تطور أشكال الاحتيال والنصب عبر التسول عن التطورات الكبيرة التي طرأت على المجتمع المغربي ونظرة أفراده للتسول أساسا؛ فقبل عقود كان ينظر إلى التسول على أنه عيب وإذلال للنفس، أما حاليا فبات كثر يعتبرونه نوعا من الطلب المشروع، بحيث يجتهدون في إيجاد نوع من التبريرات لجعله مقبولا، مثل قلة فرص الشغل وانتشار البطالة”.
وأوضحت السباعي، مصرحة لتشاش تفي، أن “مظهر المتسول تغير وتطور كثيرا على هذا الأساس؛ إذ لم نعد نراه يرتدي ملابس رثة كما اعتدنا سابقا، بل أنيقة ومتناسقة”، موردة أنه “يقوم بذلك من أجل إحداث تعاطف كبير من المواطن معه، وإضفاء نوع من المصداقية لادعائه بأن الظروف الخارجة عن الإرادة، وبينها البطالة، التي دفعته إلى التسول”، مؤكدة أن “هذه الطريقة تجعل أكاذيب المتسول تنطلي على المواطنين، ما يحفزه على الاستمرار بالتسول، حتى يصير مطبعا معه ويصعب عليه الإقلاع عنه”.
وأيدت المتحدثة “الطرح القائل بأن ما يجعل المتسولين يلجؤون إلى الطرق الجديدة سالفة الذكر، هو تعويلهم على أن المواطن المغربي في نهاية المطاف سيعتقد بأنهم لا يسلكون التسول كحرفة لأجل مراكمة الأموال مثلا، وإنما اضطروا لذلك في ظرف معين فقط”، مشددة على أن “المتسولين لا يكفون عن التفكير والإبداع في الطرق التي تمكنهم من سلب تعاطف الناس، ليس على مستوى التسول التقليدي، وإنما كذلك على مستوى التسول الرقمي”.
وأكدت أن بعض المواطنين “لا يكتشفون كذب المتسول/المحتال الذي اقتنوا له يوما تذكرة سفر على سبيل المثال إلى أن يصادفوه مرة أخرى بالمحطة نفسها يمارس سلوكه الاحتيالي والتدليسي”، محذرة من أن “مثل هذه الممارسات ستؤدي إلى انعدام الثقة بين المواطنين، ما سيفضي إلى حرمان مجموعة من مستحقي الصدقات منها”.