بعنوان “لا تجعلوا لينين موظّفا لدى فرانكو”، نشر الصحافي البارز الراحل محمد باهي مقالا علامة في غشت من سنة 1975، منذ ما يقرب من نصف قرن، مقدّما أجوبة فاصلة حول قضية مغربية الصحراء، وتدثّر الانفصال في لبوس ثوري هو “وهم كبير” يخدم في نهاية المطاف تجزئة المملكة والمنطقة وسيادة الدول الإمبريالية “التوسّعيّة” على المغارب.
محمد باه حرمه المغربيُّ، الذي رأى النور بموريتانيا، قطن بالجزائر التي غادرها عندما اقترح عليه رئيسها هواري بومدين تسلّم قيادة انفصاليّي البوليساريو، وكان ردّه مقالَه التاريخيّ هذا، قبل عودة الصحراء إلى التراب المغربي بعد شهور إثر “المسيرة الخضراء”، وكان أول المستويات رسالة إلى “عناصر صحراوية من الشباب المتعلم أو شبه المتعلم، يعملون في إطار ما يسمى الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب (البوليزاريو)، ويدعون إلى الاستقلال والانفصال عن المغرب. ولا بد من قول بعض الحقائق المرة لهؤلاء الشباب، وأيضا لفريق من شباب المغرب المستقل يؤيّدهم ويدافع عنهم في المحافل الدولية”.
الصحراء ساهمت في تحرير المغرب
تحدث محمد باهي في المقال بوصفه “واحدا من أبناء المنطقة الصحراوية، تربى سياسيا ضمن نفس المناخ الوطني الذي عرفه نفس الجيل في شمال الوطن”، وكتب: “حين بدأت حركة المقاومة المغربية بعد نفي المغفور له جلالة محمد الخامس، كان الهم الأول لعناصر الشباب في المناطق الصحراوية النائية هو شد الرحال نحو مواقع العمل المسلح. ولم تكن الرحلات تتم آنذاك عن طريق الطائرات، ولا كانت هناك دول تعطي الجوازات والمساعدات للّذين تحركهم حمية الوطنية الصادقة. كان الإيمان هو السلاح الوحيد، وكان لهذا الإيمان هدف محدد: المشاركة في تحرير المغرب وتوحيده”.
وأضاف شاهدا على إسهام منطقة مغربية في تحرير المغرب: “هذا الإيمان هو الذي دفع مئات الشباب من سكان الصحراء في تلك الفترة إلى اختراق أراض مقفرة لا زرع فيها ولا بشر ولا ماء، بحثا عن وحدات جيش التحرير التي كانت بدأت تصل من الشمال إلى مشارف الصحراء في نهاية 1955 وبداية 1956”.
ثم أردف قائلا: “لقد كان لكاتب هذا المقال شرف الالتحاق بأولى تلك الوحدات التي استقرت في كلميم، وليس هنا مجال الحديث عن تاريخ جيش التحرير المغربي في ذلك الجزء من الوطن، ولكن المهم أن نذكر أنه قاد معارك طاحنة ضد الوجود الفرنسي والإسباني بالمناطق المحتلة، وأن نضاله أسفر عن تحرير جبال أيت باعمران ومدينة إيفني الشاطئية، ومدينتي طرفاية والطنطان، وأن الحكومة الإسبانية وجدت نفسها مكرهة على التفاوض مع المغرب لإعادة الأراضي المحررة، وقبول إدماجها رسميا في الدولة المغربية. وعودة هذه المناطق، التي هي جغرافيا وسكانيا جزء من الصحراء المغربية المحتلة، هو أكبر دليل على أن إسبانيا لم تكن تنازع مبدئيا في مغربية الصحراء”
وَحْدَوِيَّةٌ انفصالية!
ضمن المقال المنشور في مطلع أعمالِه الصِّحافية الكاملة الصادرة في ثمانية أجزاء، كتب باهي حرمه قبل نصف قرن: “بعض الذين ينادون اليوم بالانفصال أو على صلة مباشرة أو غير مباشرة بالحركة الداعية إليه كانوا في وقت من الأوقات يدافعون عن نظرية معاكسة. ولكن من الحق أن نقول إن بعضهم كان قصير النفس، وأنه انتقل عدة مرات من الوحدة إلى نقيضها”.
وأضاف: “هؤلاء يقعون في مأزق، وخاصة حينما يحاولون ارتجال تاريخ صحراوي ‘وطني’ مستقل عن المغرب، أو حينما يرقّعون شخصية وطنية صحراوية متميزة. ولكنهم يهربون من المشكلة بتذويبها في إطار مغرب عربي فضفاض، أو في إطار عربي أوسع وأشمل، ثم يزعمون بعد هذا كله أنهم دعاة وحدة على صعيد المغرب العربي وعلى مستوى الأمة العربية. فإذا أحرجوا، وأفحموا، وأفهموا أن في تحليلهم بعض التناقض، وإذا قيل لهم إن الوحدة الحقيقية لا تتم عن طريق تمزيق التشكيلات الوطنية المكونة تاريخيا (والمغرب واحد منها)، ولا بواسطة اصطناع كيانات قزمية لا تملك أسباب الوجود، وجدتهم يستنفدون ذخيرتهم الحية بسرعة، ورأيتهم يلجؤون إلى المدفعية الإيديولوجية الثقيلة (…) رفع علم ‘تقرير المصير’ وحق الشعوب في اختيار النظام الذي يناسبها، وما شاكل ذلك من حجج لا جدال في سلامتها، ولكنها في هذه الحالة بالذات تصبح ستار الكثير من السفه العقلي وورقة توت لتغطية أهداف لا يجرؤ أصحابها عن الإعلان عنها. ولا يملك المحاور الذي يتمسك بعقله إلا أن يستغرب من وجود منطق يلفق محاكماته للأشياء انطلاقا من مراجع تبدأ بامرئ القيس بن حجر الكندي، وتنتهي بلينين وماو تسي تونغ”.
وواصل: “إحدى الحجج التي يسوقها الشباب الصحراوي الداعي إلى الانفصال لتبرير خطه السياسي، هي وجود عشائر عربية صحراوية، ما زالت تعيش حياة رعي وتنقل شبيهة بالجاهلية الأولى. وحين نقول لهم إن العشيرة يمكن بالتأكيد أن تكون موضوعا لدراسة أنثروبولوجية أو إثنولوجية طريفة، ولكنها لا يمكن أن تكون موضوعا للتاريخ، نشعر بأنهم فوجئوا بمثل هذا الكلام، ولكنهم لا يترددون في العودة بقوة إلى تقرير المصير والاستشهاد بمقتطفات كاملة من لينين، ولا يشعر هؤلاء الشباب الذين يدعون الماركسية أنهم بعملهم يحولون لينين إلى موظف بسيط في قصر فرانكو. ولا يعرفون أن الدولة العتيدة التي يدعون إلى إنشائها في الصحراء، سوف تكون دولة تابعة بحكم طبيعتها وبحكم قوة الأشياء في عصر الإمبريالية، إلى دولة إمبريالية”.
أما حديث “البؤرة الثورية” وخلقها في صحراء المغرب، “فلا يمكن أن يصدر إلا عن أشخاص يأخذون رغباتهم على أنها حقائق. هذا مع افتراض وجود النية سلفا… إن من الأفضل الحديث عن ‘البئر الثرية’، أي عن وجود ثروات هائلة في باطن أرض الصحراء المغربية وشواطئها، يسيل لها لعاب الثوريين وغير الثوريين”.
وبعد استحضار تجارب عربية وغير عربية، كتب باهي: “تدل التجربة الماثلة أمام عيوننا أن أحسن وسيلة لاستمرار النهب، وجود دويلة صغيرة، تتمكن الشركات من إفسادها بشتى الطرق”.
أطماع إمبريالية
ثاني مستويات جواب باهي كان “الموقف من إسبانيا”، لأن “هذه الدولة لا توجد في حالة تسمح لها بخوض حرب حقيقية طويلة ضد بلد مجاور مثل المغرب. إن قوتها الظاهرية متأتية من ضعف المغرب الظاهري أيضا. ويعود عجز النظام الفرنكَوي عن الحرب إلى تخوفه من عواقبها الداخلية وإلى كون الجيش الإسباني نفسه غير مستعد لخوض تجربة عنف قد تنتهي بهزيمته”.
وفي نهاية عهد الجنرال الإسباني فرانكو، كتب محمد باهي: “علينا بهذه المناسبة أن نذكر بأن النظام الفاشي المسيطر حاليا في مدريد قد وُلد روحيا في المغرب. ففي أعقاب الهزيمة النكراء التي ألحقها البطل (بن) عبد الكريم الخطابي ومقاتلوه بالعساكر الإسبانية، بدأ فرانسيسكو فرانكو، وكان وقتها ضابطا برتبة ملازم، يتآمر مع حفنة من صغار الضباط لاستلام السلطة في إسبانيا بدعوى أن الحكم القائم في مدريد كان المسؤول عن هزائم الجيش الإسباني في المنطقة الشمالية. وكانت ديكتاتورية ‘بريمو دي ريفييرا’ السابقة للجمهورية ثمرة من ثمار حرب الريف. والأغلبية الساحقة من الضباط الفاشيين الذين تحركوا مع فرانكو انطلاقا من جزر كناريا والمناطق المحتلة سابقا من شمال المغرب، والذين تشكل منهم فيما بعد الطاقم القيادي للدولة الفرنكوية، كانوا من قدماء حرب الريف، وكانوا مدفوعين في مناهضتهم للجمهورية الإسبانية بمشاعر المهانة والمذلة التي شعروا بها خلال محاربتهم للمغاربة”.
الصحافيّ البارز الذي خصّص له الروائي البارز عبد الرحمن منيف كتابا كاملا، كتب حول “المستوى الثالث” للقضية الذي هو “الموقف من الدول الأجنبية”، قائلا إن “الدول الغربية الإمبريالية الكبرى المعنية مباشرة هنا، هي: الولايات المتحدة الأمريكية، وفرنسا، وألمانيا الغربية”، وفصّل في “المصالح الاقتصادية” و”الأطماع الاستراتيجية في المنطقة”.
وما أكّد عليه محمد باه حرمه في آخر المكاشفَة، هو أن “كل دولة تحترم نفسها، سواء أكانت ليبرالية أم ديكتاتورية، اشتراكية أم رأسمالية، تستميت في الدفاع عن مصالحها وثرواتها القومية. والموقف من الوطن ووحدته وكيانه أمر لا علاقة له باللون الإيديولوجي”، ثم استدرك موضحا: “طبعا هذا لا يعني أن لا علاقة بين النضال الوطني والنضال الطبقي، غير أن الطبقات الاجتماعية الناجحة هي التي تتصرف بذكاء لضمان وحدة الوطن، لأن في ذلك ضمانا لمصالحها الخاصة. ولكن الثورية مهما بلغت من الصفاء والطهارة والعذرية، لا يمكن أن تكون مبررا للتفريط في الحفاظ على المصلحة الوطنية، في مرحلة معينة. ومصلحة المغرب الراهنة، بصرف النظر عن التناقضات الطبقية العميقة، ومصلحة شعبه ومستقبله هي أن تعود إليه الصحراء”.