مبكرا بدأت تظهر معالم النقاش الساخن الذي سيرافق مناقشة قانون المسطرة الجنائية، الذي صادقت عليه الحكومة في اجتماعها الأسبوعي، إذ انتفضت جمعيات الدفاع عن المال العام ضد المادة الـ3 من المسطرة التي جاء بها وزير العدل عبد اللطيف وهبي.
وجاء في المادة المثيرة للجدل أنه “لا يمكن إجراء الأبحاث وإقامة الدعوى العمومية في شأن الجرائم الماسة بالمال العام، إلا بطلب من الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض بصفته رئيسا للنيابة العامة بناء على إحالة من المجلس الأعلى للحسابات، أو بناء على طلب مشفوع بتقرير من المفتشية العامة للمالية أو المفتشية العامة للإدارة الترابية أو المفتشيات العامة للوزارات أو من الإدارات المعنية، أو بناء على إحالة من الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها أو كل هيئة يمنحها القانون صراحة ذلك”.
تحديد الهيئات أو الجهات التي يحق لها إحالة شكاية أو طلب إجراء البحث وإقامة الدعوى العمومية في شأن الجرائم الماسة بالمال العام، جعل الجمعيات التي كانت وراء جر غالبية المتابعين في هذا النوع إلى المحاكم خارج السياق، وهو الأمر الذي كان قد توعدها به وزير العدل في لقاء داخل لجنة العدل والتشريع بمجلس النواب.
القضاء على الابتزاز
أحمد التويزي، رئيس الفريق البرلماني لحزب الأصالة والمعاصرة بمجلس النواب، الذي برأه قسم جرائم الأموال بمحكمة الاستئناف بمراكش من التهم التي لاحقته بناء على شكاية قدمتها جمعية لحماية المال العام، بعد سلسلة من الجلسات الطويلة، اعتبر أن الوقت قد حان لإنهاء ما سماها “الفوضى” و”الابتزاز” الذي تمارسه جمعيات حماية المال العام المنتشرة في مختلف ربوع المملكة.
وقال التويزي، ضمن تصريح لجريدة تشاش تفي الإلكترونية، إن الدولة لديها إرادة كبيرة لمحاربة الفساد، وقد أحدثت الهيئات والمؤسسات الدستورية التي تسهر على ذلك بعيدا عن السياسة، منتقدا “أي شخص في حزب معين يحدث جمعية ويسميها جمعية لحماية المال العام ويجعل منها عنوانا لشيء آخر”.
وأشار في هذا الصدد إلى جر العديد من المسؤولين والمنتخبين إلى المتابعة أمام القضاء بسبب شكايات من جمعيات حماية المال العام بتهمة “المساس بالمال العام”، وقال إن “الوكيل العام يحيل الملف على النيابة العامة لفتح البحث مباشرة، ويتم البحث والقيل والقال، وفي الأخير يقولون لك سامحنا لم نجد شيئاً”، معتبرا أن “هذا غير مقبول”، وأن “الأعراض والأسر يلحقها الكثير من الضرر والأذى بسبب هذه الشكايات “الكيدية”.
وشدد التويزي على ضرورة “ضبط الموضوع قانونيا”، موردا أن “الكلام عن محاربة الفساد بالنسبة للبعض مجرد شعار، ولكن الواقع فيه أمور أخرى، وجمعيات حماية المال العام تناسلت بشكل كبير وأصبحت مهنة من لا مهنة له”، وفق تعبيره، ودعا إلى “القطع مع الابتزاز الذي يتعرض له رؤساء الجماعات في عدد من الأقاليم”.
تحجيم أدوار الجمعيات
عكس التويزي، يرى محمد الغلوسي، رئيس الجمعية المغربية لحماية المال العام، أن شكوك جمعيته كانت في محلها، وقال: “دائما كنا نقول إن تصريحات وزير العدل ليست تصريحات فردية لمسؤول حكومي، واتضح اليوم أننا كنا على صواب وأن هناك توجها يدفع باتجاه تحجيم أدوار المجتمع المدني والحقوقي”.
وأضاف الغلوسي، في تصريح لتشاش تفي، أن دستور 2011 جاء بمكتسبات مهمة في المجال الحقوقي والمدني، إذ اعتبر أن المجتمع المدني “شريك أساس في تقييم وصناعة السياسات العمومية”، لافتا إلى أن الاعتقاد كان يسير نحو “تعديل قانون الجمعيات لمنح فضاء واسع من الحرية للممارسة الجمعوية والحقوقية، إلا أنه، للأسف، مع هذه المادة، اتضح أن التوجه أو الجهات المستفيدة من واقع الريع والفساد والرشوة هي الجهات نفسها التي دفعت باتجاه إقبار قانون الإثراء غير المشروع”.
وزاد موضحا أن “الجهات التي تضايقت من المتابعات القضائية المحركة ضد لصوص المال العام والمفسدين، هي الجهات نفسها التي تتضايق من عزل القضاء الإداري لبعض المنتخبين، وهي الجهات التي تسعى اليوم إلى إغلاق آخر منافذ الرقابة المجتمعية على المال العام من خلال منظمات ومؤسسات المجتمع المدني والحقوقي”.
وأكد الغلوسي أن إغلاق هذه المنافذ يأتي من أجل “الحفاظ على مواقع ومراكز تضخ مصالح ومنافع وامتيازات على هؤلاء الأشخاص، بعد متابعة مجموعة من المنتخبين والبرلمانيين أمام القضاء”، معتبرا أن المؤسسة التشريعية تواجه اليوم مأزق “التوظيف بشكل فج، من أجل تمرير نص قانوني يوفر الحماية والحصانة لهؤلاء من جهة، ويقوض من جهة ثانية التزامات المغرب الدولية في مجال مكافحة الفساد”.
وردا على التهم التي توجه لجمعيات حماية المال العام بالاستهداف والابتزاز السياسي، قال الغلوسي إن القضاء هو الذي “يبرئ أو يدين أي شخص، والجميع يجب أن يخضع للقانون ونحتكم جميعنا للقضاء”، مؤكدا أنه ليس بالضرورة أن تكون كل الأحكام عبارة عن إدانة للمتابعين، معتبرا أن المادة 3 من المسطرة الجنائية فيها “اعتداء صريح على اختصاص النيابة العامة وأقسام جرائم الأموال في محاكم الاستئناف بأربع جهات”.
فتح الباب على مصراعيه
من جهته، أفاد محمد يحيا، أكاديمي أستاذ بكلية الحقوق بطنجة، بأن التبليغ عن الفساد وقضايا المال العام “مسألة ينبغي أن تبقى متاحة للجميع”، مشددا على أن الأمر يتعلق بتوجه نحو “التضييق على الجمعيات والمجتمع المدني”.
وأضاف يحيا، ضمن تصريح لتشاش تفي، أنه “في منظومة قانونية متزنة وسليمة، الجميع على استعداد لتحمل مسؤولياته، يجب أن يبقى الوضع على ما كان عليه ويفتح الباب أمام الجمعيات للتبليغ عن الفساد والتطاول على المال العام”.
وأشار إلى أنه “إذا كانت لدى الحكومة نية صادقة في حماية المال العام ومحاربة الفساد، يجب فتح الباب على مصراعيه أمام الجميع للتبليغ، وبالتالي لا معنى لحصر هذه المسألة في النيابة العامة وغيرها من المؤسسات الرسمية”.
واعتبر الأكاديمي ذاته أن على “الحكومة أن تتحمل مسؤوليتها في هذا المجال وتعرف أن المواطنين ومؤسسات المجتمع المدني وغيرها من حقهم الدفاع عن المال العام”، متسائلا في حالة سحب الحق في التبليغ من هذه الجمعيات: “ما هي المهام التي ستقوم بها لأن هذه القضايا من بين الأهم التي يمكن أن تتدخل فيها؟”.
وأشار يحيا إلى أن النماذج العالمية “لا تحصر المسألة فقط في المؤسسات العمومية، وبالتالي على الجميع أن يتحمل مسؤولياته، وإذا قدم أحد شكاية كاذبة أو أراد تصفية الحسابات، هناك التحقيق الذي يبين الحقيقة، وكل واحد له الجزاء الذي يترتب عن ذلك”، وفق تعبيره.
وختم المتحدث ذاته قائلا: “إن الوضع الصحي والطبيعي يقتضي ألا يتم التضييق على هيئات المجتمع المدني باعتبارها طرفا أساسيا في كل ما له علاقة بحماية المال العام”، موردا أن “الحكومة مطالبة بالأخذ في الاعتبار التأثيرات التي يمكن أن تطال صورة المغرب في العالم إذا ما تم إقرار هذه المادة”.