تستحق كل رحلة ناجحة أن تروى. كما في فيلم “قطار الأطفال” 2024، للمخرجة كريستينا كومنشيني (Cristina Comencini)، الذي يحكي رحلة من الجوع والحفا إلى الشبع والحذاء الفاخر.
لكشف التحول، استخدمت المخرجة فلاش باك طويلا يرضي المتفرج الذي يريد أن يعرف كيف كانت الشخصية وكيف أصبحت. ما صلة بداية الفيلم بنهايته؟
الحنين إلى المكان. كل مكان أساسي يظهر في الفيلم مرتين بشكل متباعد.
وضع السيناريست شخصياته في مقلاة حارقة. الواقع هو محور الشر وليس أي من شخصيات الفيلم. رغم بؤس المكان، يُشفي الفيلم مُشاهده بلقطات مضادة للفقر الوجداني.
بدأ الفيلم بالجملة نفسها التي بها افتتح ألبير كامو رواية “الغريب” 1942.
ما العلاقة؟ وحدة الحدث والزمن.
أم وحيدة تربي طفلا في مرحلة انتقال مبكرة للمراهقة، طفل يراقب نظرات الرجال إلى أمه ويلاحظ الحركات الصغيرة الدالة، يتلصص بحذر ويحتار هل يحمي أمه من الغرباء أم يحتقرها لأنها تتعرى لبعضهم. من حسن الحظ، كان لديه دليل سلوكي فادح على مدى حب أمه له… يصعب على امرأة أن تربي طفلا بعيدا عن أبيه في مرحلة الانتقال إلى المراهقة.
يعرض الفيلم أطفالا يلعبون مشاهد حربية في نابولي جنوب إيطاليا خلال الحرب العالمية الثانية. يلعبون في أزقة لا رجال فيها… أزقة تكدح فيها أرامل وأمهات وحيدات وأطفال حفاة جائعون… من سيساعدهم؟
تقف الراهبات في الممر المؤدي إلى مقر الحزب الشيوعي للتحذير من إرسال الأطفال إلى سيبيريا جوزيف ستالين. هذه هي إشاعات الكهنة ضد الشيوعيين. وقعت الأم بين فكّي الكنيسة والحزب بينما الدولة الإيطالية غائبة عن رعاية أطفالها. يبدو أن الروائية Viola Ardone التي اقتبست روايتها للفيلم هي من تلامذة أنطونيو غرامشي (1891-1937) الجنوبي.
يتناول أطفال شمال إيطاليا لحم البقر، ويقضون وقتهم في المدارس، بينما يتناول أطفال الجنوب لحم الفئران ويذهبون للكد والكدح. هكذا عرض الفيلم الفوارق التي سماها غرامشي مشاكل الجنوب الإيطالي في كتابه “دفاتر السجن”.
فيلم “قطار الأطفال” هو حنين للواقعية الإيطالية، هو تأريخ لما فعله رفاق أنطونيو غرامشي من أجل أطفال الجنوب الإيطالي الحفاة… رغم الحرب الأيديولوجية التي قادتها الكنيسة الكاثوليكية ضد الحزب الشيوعي الإيطالي.
توفر كتابات غرامشي مدخلا قبْليا لمشاهدة وتمثل وتأويل أفلام الواقعية الجديدة في ظل الفوارق الاقتصادية والاجتماعية بين شمال إيطاليا وجنوبها. وُلد غرامشي، ابن الجنوب الإيطالي، في سردينيا جزيرة الصيادين، ليس بعيدا عن جزيرة صقلية حيث صوّر المخرج لوكينو فيسكونتي الصيادين لا الممثلين في فيلم “الأرض تهتز” 1948.
هذا المقال عن الفيلم هو مديح لوحدة الشكل والمضمون في الواقعية الإيطالية الجديدة، واقعية فادحة ببعد أسلوبي جمالي وفني يتحقق فيها سرد يبدو فطريا لا يحمل أية قصدية تأويلية ثقافوية مسبقة.
حدد أندري بازان سمات أفلام الواقعية الإيطالية الجديدة في: سيناريو منظم فيه سيطرة على الزمن. فيه حِبكة شعبية. فيه اعتماد حكاية تستخدم قوانين القص الشفهي. سرد بسيط لكن يقدم الحياة الإنسانية على حافة التراجيديا.
كانت الواقعية الجديدة بديلا للواقعية التسجيلية الجافة وللواقعية الاشتراكية الدعائية.
حتى الآن لم يفقد أسلوب الحكي الذي أسسه فيليني ورفاقه قوته.
السيناريو هو شراع الفيلم والإخراج هو إبحاره. الأسلوب هو حاصل السمات التصويرية المُشكلة للغة السينمائية:
مكان واحد محدد صغير، شخصيات غارقة في اليومي ولا تبدي أي سمات بطولية. في جل اللقطات حدث مزدوج، في مقدمة الكادر وفي عمق الكادر، العرض والسرد أكثف من الحوار في خلق المعنى. وهكذا لا يوجد مكان مجاني خال من الحدث. زوايا الكادرات مختارة بعناية. يحرص المخرج ألا يقطع وجه الممثل عن الديكور. غالبا يضع المخرج ثلاثة أشياء في منظور الكاميرا، هكذا لم يبق هناك فضاء غير مستغل في الخط نفسه…
يوظف الفيلم طريقة سرد مميزة فيها اقتصاد وكثافة، في كل كادر معلومة وإحساس. لا يوجد كادر مجاني. يتقدم الفيلم بسرد متماسك وبأفعال تحدث التأثير المنتظر. تمثل لقطة تخلص الطفل من شارة الحزب الشيوعي مثالا لهذا الاقتصاد الطافح بالمعنى.
في الفيلم حكاية الأم والطفل. على الجدار لوحة مريم والمسيح. تشابهات جمالية إيطالية تذكر بواحد من أكثر الأفلام تأثيرا في تاريخ السينما.
باعتماد منهج السرديات الفيلمية المقارنة يقدم فيلم “قطار الأطفال” تتمة مثالية لقصة الطفل برونو ريشي في فيلم فيتوريو دو سيكا “سارق الدراجة” 1948.
يحكي دو سيكا، ابن الجنوب الإيطالي، عن جولة طفل رفقة والده في شوارع المدينة، ولهذا تبِعات:
ذهب الأب بدراجته للبحث عن عمل بكرامة أمام ابنه، حلت المصيبة رقم واحد وهي أن الرجل بلا عمل قار ولم يحصّله. والمصيبة الثانية سُرقت منه دراجته فحاول سرقة دراجة فصنع لنفسه المصيبة رقم ثلاثة: ضبط متلبسا ففقد كرامته تحت عيني ابنه…
كان بطل فيلم “قطار الأطفال” محظوظا، إذ ربته رفيقة شيوعية طباخة. كان الطفل يكره بؤسه أكثر مما يحب أمه، لذا انتقل من سطوة الجوع إلى سلطة الكتب. يريد أن يكون مثقفا لا كادحا. حقق حلمه.
رغم النهاية السعيدة لفيلم “قطار الأطفال” فقد السيناريو قواه بعد الدقيقة السبعين، لم يعد هناك ما يمكن إضافته… بينما كانت نهاية سارق الدراجة أقوى، وفيها يلتقط الطفل قبعة والده، ينفضها ست مرات… بغضب. تتحرك شخصية الطفل في أرضية جديدة. كانت نهاية فيلم دوسيكا أفضل وأكثر دلالة حين التحق الطفل بمسيرة سارقي الدراجات… “سارقي” بالجمع، كما هو العنوان بالإيطالية.