برعاية ملكية، جمعت العاصمة الرباط أسماء مغربية وعربية وغربية بارزة، مسلمة ومن أديان أخرى، في مؤتمر بطموح مشترك هو تعزيز الإيمان، ودفع تنامي الإلحاد في صفوف الشباب، خاصة في ظلّ أثر “تيار إلحادي” دعواهُ أن العلم ينسخ الدين.
بعنوان “الإيمان في عالم متغير”، نظمّت هذا المؤتمر “الرابطة المحمدية للعلماء” و”رابطة العالم الإسلامي”، ومن بين ما أعلنه اليومُ الأولُ العمل من أجل تأسيس مرصد لدلائل الإيمان ومواجهة الشبهات، يكون عمله مؤسسيا يجمع الخبراء متعددي التخصصات، بتضافر الجهود دوليا.
ومن المحطات البارزة في المؤتمر دعوة محمد مختار جمعة، وزير الأوقاف المصري السابق عضو المجلس الأعلى لرابطة العالم الإسلامي، إلى “وقف العدوان على غزة ولبنان”، مناشدا “كافة حكماء العالم ومنظماته الدولية العمل على وقف هذه الحرب قبل اتساع قطاعها، ووقف هامة الحرب وإعمال السلام في كافة أنحاء الدنيا، فكل الأديان السماوية تنص على حرمة الدماء والأعراض”.
قضية ثقيلة
قال أحمد عبادي، الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء، إن هذا المؤتمر يعكف على “قضية ثقيلة هي الانفكاك بين الإيمان والعلوم في أذهان الثلة الكبيرة من الشباب، وهي ثلة تتزايد إلى درجة أن بعض الإحصاءات في الولايات المتحدة الأمريكية تذكر أن نسبة شبابها الذين بدون إيمان تتجاوز 50 بالمائة”.
وقدّر الفقيه والأكاديمي المغربي أن مردّ ذلك إلى أسباب من بينها “الاصطدام بوهج العلم”، الذي نتج في نهاية القرن التاسع عشر، واكتشاف العالَم أن ثمة منهجية لمساءلة الكون من خلال الوقوف على سننه، والتأثيل بين كل ذلك للوصول إلى درجة من النجاعة والفاعلية لم تتحقق من قبل، ولو كانت موجودة في العالم الإسلامي والعالم بأجمعه، لكنها كانت منحَبسة عند القلة النخبوية، ثم انتشرت بعد انتشار الجامعات، والتعليم العالي الحديث.
ومن الأسباب أيضا، الانصياع وراء الفلسفات الحديثة التي طفقت تسائل الوجود من زوايا معينة، تكون لها تجذرات في الاحتياجات الجوهرية للإنسان، استجابة لقضايا ضاربة في عمق كينونة الإنسان، واستكشافا للديناميات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وبلورة لها، وهو ما تضافر مع “المخترعات والنتائج الباهرات مثل صعود الإنسان للقمر، وتحرير طاقات الذرة”، مما أدى إلى “نوع من الانفكاك بين الدين والعلم، وظهور جملة من النظريات التطورية وغيرها، الموهمة بالتناقض بين الدين والعلم”.
ومما يفسّر أيضا انتشار الإلحاد، كون “التمثيليات الدينية لم تكن دائما في مستوى هذه التحديات (…) والاشتباك العلمي المنهاجي، باستثناء قلائل مثل وحيد الدين خان”، بتزامن مع مجموعة من الهزات مشرقا ومغربا، في بداية القرن العشرين، انهارت معها تمثيليات دينية كاثوليكية وأرثودوكسية، وإسلامية مثل “الخلافة العثمانية” التي “كانت تمثل الوجود السُّنّيّ، وإن بقيت الدول قائمة حاملة للمشعل”.
ورغم “وجود أوبة” ليست عامّة، إلا أن عبادي لم يطمئن لها؛ فالناس اتخذوا “رؤوسا جهّالا استفتُوا فأفتوا، فَضَلُّوا وأضلوا، مما أدى إلى التنفير من المنظومات الدينية بشكل عام”، وهو ما صب في مصلحة المشاريع التي تربط بشكل غير مشروع “بين التقدم والانفكاك عن الدين”.
ودعا أحمد عبادي إلى تنسيق في الزمن الحديث، لإنتاج حلول وقوة اقتراحية، من بين أدواته مرصد “على أحدث طراز” يُؤسَّس، وهو أحد دواعي دعوة هذا المؤتمر “مجموعة من الخبيرات والخبراء، هم قامات علمية تتعاون لإنشاء وتعزيز المرصد، بهندسة تضمن الاستدامة المنتجة والوظيفية، وله منصة تفاعلية تفيد من أحدث ما هو موجود في الجانب الرقمي (…) ويسهر عليه من يغذيه باستمرار”.
حاجة البشرية للإيمان
عبد الله بن بيه، رئيس مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي، قال إن “هناك دعاية شديدة ضد الدين يجب أن نفنّدها”، من بين تمظهراتها “أننا قبل سنة أرسلنا رسالة إلى عالم بريطاني حاصل على جائزة في الفيزياء، فكتب لنا ردّا من جملة واحدة يقول إن الأديان من أسباب الحروب فلا داعي للحضور معكم، في منتدى تعزيز السلم”.
وتمسّك بن بية بـ”الحاجة إلى الإيمان في عالم متغير”، علما أن “الحس والعقل والخبر، من مصادر المعرفة عند المسلمين”، وأن “من ثمار الإيمان في الدنيا تأسيس الأخلاق تأسيسا متينا، في النفوس والضمائر”؛ لأن كل أخلاق لم تصقل بالإيمان والوحي تظل ضعيفة التأثير، معرّضة للهوى، وتتلاشى أمام الأزمات.
وبعد استحضار منطلقات وسياق “المتكلّمين” (علماء الكلام) في تاريخ الإسلام، ذكر الفقيه الموريتاني أن المشتغلين اليوم بصيانة الإيمان ودفع الشبهات عليهم سلوك طريق نبي الله إبراهيم، الذي “في النهاية فر إلى الله تعالى” ليجد ثبات الإيمان.
وحيّى بن بيه المرصد المقترح تأسيسُه، داعيا إلى أن يجمع “علماء العرفان والبيان والبرهان، كلٌّ يقدم ما لديه من الخير لبيان الطرق المؤدية إلى الله”.
وتابع المتدخل: “الإيمان تشهد له آيات الكون وعلينا بتجديده في حياتنا وحياة الناس”، ومن الضرورة التحلي بالحكمة والموعظة الحسنة والتسامي عن التجريح، باعتماد البرهان، مع استحضار كون “كل حزب بما لديهم فرحون”، وبأن “البضاعة الجيدة، تطرد السيئة”.
الدين معاصِرا
ذكر محمد بن عبد الكريم العيسى، الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي، أن هذا اللقاء ينظّم من أجل “تقوية الإيمان في قلوبنا نحن المسلمين، وفي قلوب كل مؤمن بالله جل وعلى، فالذكرى تنفع المؤمنين، وليواصل أهل العلم والإيمان ردّ شبهات الإلحاد بالبينات والزبر”.
ثم أردف قائلا: “يعتقد البعض أن الإلحاد بات اليوم أكثر من ذي قبل (…) لكن مهاترات الإلحاد قديمة قدم الوجود الإنساني، وكانت في التاريخ سجالات إلحادية ربما بعضها أكثر من الآن (…) وهي تحتج اليوم بما تراه هي من منطق ومن تفسير لبعض اكتشافات العلوم المعاصرة”.
وواصل: “أصحاب جدلية الإلحاد وهم يحتجون بنظائر العلم، لهم نظراء في استيعاب العلم وربما فاقوهم وهم على غيرهم في استيعابها، وألبرت أينشتاين لم يكن منكرا لوجود قوة تدير الكون، ونحن نؤمن بالله الواحد الأحد الفرد الصمد (…) وكثير ممن نسبوا للإلحاد لم يكونوا ملحدين بمعنى إنكار وجود الخالق (…) وستيفن هوكينغ في نهاية حياته على قناة (سي إن إن) لم يستطع إنكار وجود الله، بل أجاب بأنه قد يكون موجودا، وإنما فعل من مثله ذلك لأنهم لم يبحثوا عن الإيمان، ولكنهم لم ينكروا وجود الخالق”.
وزاد: “من رحمة الله أن الإيمان بالله والكفر به مرتبط بالعقل (…) وموضوع الإيمان من عدمه لا علاقة له بالذكاء المفرط والعلوم المادية، بل بالتجرد في استخدام العقل الذي لدى كل المكلفين على درجات”، قبل أن يذكر أن التفسيرات الصحيحة للعلم المعززة للإيمان من الدلائل المعاصرة “لا تُنشئ الإيمان، بل تعزّزه، مصداقا لقوله تعالى: إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون”.
ومن أمثلة ذلك وقوف القائل بالإلحاد عند منشأ الحياة، من الخلية، وعدم الالتفات إلى ما وراء مثل هذا المخلوق من خالق موجِد، صمّم الكون البديع، بانتظام مدهش، لا محلّ “لرمية نرد” فيه.
ثم استرسل قائلا: “هذه موضوعات تحتاج راسخين مختصين، والاستماع إلى عدة اختصاصات لتداخل الشبهات مع أكثر من علم، والتصدي بخطاب يفهمه الجميع بمسلّمات منطقية مشتركة يتحاكم إليها الجميع، وعدم التكلف وسرعة الحماسة التي تحول القضية إلى سجال شخصي، ولا نريد فتنة الناس وخسارتهم بل هدايتهم، والحجة على من ينفي وجود الخالق لا المثبت”. هذا ما يقتضي مخاطبة بالحجة تتوجّه إلى “المخطوفين الذين يرون من نافذة واحدة، فيقعون في مصيدة تيار إلحادي”، وتعزيزا للجهود بـ”مرصد دولي لدلائل الإيمان ومواجهة الشبهات، يكون عمله مؤسسيا فيه الخبراء متعدّدو التخصصات، المستفيدون من مختلف الجهود في العالم”.
الإيمان حق وبوصلة
سالم بن محمد المالك، المدير العام لمنظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة “إيسيسكو”، استشهد بشعر محمد إقبال: “إذا الإيمان ضاع .. فلا أمانٌ ولا دنيا لمن لم يحيِ دينا // ومن رضي الحياة بغير دين .. فقد رضي الفناء لها قرينا”، ليقول: “يبقى الإيمان بوصلة كل فعل، وكل مغدىً ورواح: يعطى بقدر الاستزادة منه ويهب بقدر الإخلاص فيه تلك عطاياه وهداياه. ولئن كان قدر الله في خلقه (وما أكثرهم وإن حرصت بمؤمنين) فلأن القلة المؤمنة تربو بالحق في مواجهة الكثرة غير المؤمنة، وهذا مقام تفكر وتدبر لأن الوعي بدور الإيمان الحاسم كفيل بأن يكشف قوة تأثيره في الأفراد والمجتمعات”.
وأضاف: “حين نجول ببصرنا اليوم في ما تتخبط فيه البشرية من نزاعات واحترابات، وحين نلامس بأنظارنا حجم الكآبة والإحباط النفسي المتنامي وسط شرائح مجتمعاتنا، وحين يكون الخوف هو السائد والأمان هو العزيز المفتقد، فليس أمامنا سوى أن نتساءل عن موقع الإيمان من حراك البشرية، لنكتشف انتكاسة فاشية على المستويات الفردية والمجتمعية والمؤسسية. انتكاسة في إيمان الناس بربهم وبما يتنزل عن ربهم”.
وذكر سالم المالك أن “آلات الهدم، دائما، أسرع فعلا وأفتك أثرا من آلات البناء. والأدهى في كل ذلك، أن ما تتعرض له ناشئتنا مؤسف ومحبط، ومخيف. فقد كانت المدارس بالأمس تحملهم فباتوا اليوم هم يحملون مدارسهم في أيديهم، وينفقون غالب وقتهم تحت وابل إنتاجها المغري المثير. فكيف يجد الإيمان مستقرا إلى قلوبهم ووعيهم، والوالدان في انشغال عنهم بينما المفسدون لا يكادون عنهم ينشغلون، وقولوا الأمر نفسه لدى شبابنا وقد تخطفهم المؤثرون من كل حدب وصوب، ليصيروا لهم قدوة وقادة، فما ندق ناقوس الخطر إلا عن بينة من خطر محدق متمدد وماحق”.
وأوصى المدير العام لـ”الإيسيسكو” بـ “رفع صوت الإيمان باعتباره موضوع الساعة وكل ساعة، وذلك بشحذ الأفكار وحشد الإمكانات ليظل موضوعا حيا يفيض طاقة وتدفقاً (…) وبالاجتهاد في فضح مثيري الشكوك”، و”تبني صيغة التحالف الإيماني الدولي، المستند إلى التوحيد ومكارم الأخلاق، ليدافع عن الإيمان كفكرة وكمنبع لسلم العالم وأمانه”، مع “إيلاء الناشئة النصيب الأوفى من التربية الإيمانية، والحد من كل مناهج تتغول على براءتهم وفطرتهم المؤمنة”.
كما أوصى المسؤول ذاته بـ”استحداث برامج إيمانية مبدعة التصميم موجهة لشريحة الشباب تستحث فيهم إمكاناتهم العقلية الناقدة وتستجيب لتساؤلاتهم الكونية المشروعة، استدراكا لما يحيط بهم من حيرة وقلق حيال كثير من قضايا الخلق والحياة والمستقبل”، و”الاحتفاء بأصوات الإيمان المنطلقة من عديد الدول الكبرى، لما في تلكم الأصوات من صدق التجربة وتوهج الاستكشاف الإيماني، وذلك ببث تسجيلاتهم والعمل على استنطاق المزيد لديهم وحفزهم على كتابة تجاربهم الذاتية”، ثم “تصميم برامج تلفازية تستفيد من تطبيقات الذكاء الاصطناعي في وصل العلم بالإيمان والتأكيد على حقيقة “وما أوتيتم من العلم إلا قليلا”، وهو ما ينبغي أن يرافقه “تقصّ للوجهات المشيعة لأفكار الإلحاد، ومجابهتها بشتى وسائل المكافحة المستندة إلى القانون محليا وعالميا”.